الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة "كنت في الرقة" لهادي يحمد: في صميم الشرخ الفكري والإيديولوجي لمن التحقوا بتنظيم داعش

نشر في  24 نوفمبر 2017  (11:30)

بقلم حسام المسعدي

باحث ماجستير بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس

"كنت في الرقة"، رواية للصحافي الهادي يحمد، صدرت سنة 2017 عن دار نقوش عربية ويتضمن الكتاب 270 صفحة، ويُعتبر كما قال عنه صاحبه "ثمرة لقاء غريب" مع محمد الفاهم الذي كان تابعا لتنظيم داعش.

"كنت في الرقة"، عنوان مثير للدهشة نظرا لأن الفضاء الذي يلف جسد الرواية ينهل من الواقع فلا نقدر على تصديقه و يتغذى من الوثائقي فلا نستسيغ هضمه.

الرقة مدينة أصبحت حديث العالم والإعلام، تحوّل سكونها وهدوؤها إلى فوضى عارمة بعد أن حلّ بها زلزال ما سُميّ بالدولة الإسلامية وعصفت بها رياح "شريعة الحكم بما أنزل الله" لتصبح لها عاصمة وقاعدة عسكرية ضخمة، ورغم ذلك لم يزد سمعنا عنها وعن ما يقع فيها سوى بعض الأخبار والتحليلات داخل المنابر التلفزية، لا نعرف ماذا يوجد هناك عن تفاصيل الحياة ودقائقها؟ كيف يعيش فيها شاب كان سابقا مولعا بحفر إسم حبيبته على جدران المدينة؟ كيف تعيش فتاة كانت ترمق حبيبها من فوق السطوح؟ أين نادل المقهى الضحوك ؟ كيف صار الأطفال ؟ كيف هم صعاليك المدينة ومجانينها ومتسوليها وغانياتها وعاهراتها وشعرائها وفقرائها؟

أوقفنا سمعنا وبصرنا حتى جاءنا "محمد الفاهم" ليخبرنا أنه كان هناك حيث المجازر والقتل وسفك الدماء وقطع اليد وتطبيق الحدود والسحل في الشوارع والجلد وبيع النساء في السوق. "كنت شاهدا على دماء الرعب الغامقة وإختنقت برائحة البارود ومشيت على بقايا الأشلاء الآدمية وصمت أذاني المفخخات. هذا قانون الحرب التي جئنا بالآلاف للمشاركة فيها. إذا لم تقتل تقتل". هكذا تحدث محمد الفاهم.

يمنحنا التجول في متاهات الرواية أو في غابة السرد كما يسميها "أمبيرتو إيكو" امكانية التعرف على الخطوط والثنايا التي تشكل طريقنا ومسارنا داخل هذا الفضاء السردي وملامسة الجسد الذي شكل الرواية وأحكم نسجها، فالنص جسد من الجمل والكلمات والحروف التي تتشابك مع بعضها لتحيك نسيج المغامرة.

" كنت في الرقة" جسد متحرك تربكه السكينة والهدوء، فشخصية "محمد الفاهم" هي القالب الذي يبني النص، فهو الراوي والعين التي من خلالها نحت "الهادي يحمد" هذا الأدب الشهادة.

فحركة الشخصية من حركة النص وجغرافية التحولات التي عاشها "محمد الفاهم" تنسحب آليا على هندسة النص أي أننا أمام مورفولوجية أدبية تتشكل في غمار التداعي القولي الذي تنطق به شخصية "محمد الفاهم".

هذا "الترحل" مغامرة يخوضها "شاب تونسي" يبحث عن هويته المفقودة في أرض ليست بأرضه وفي فضاء غير الذي تربي وترعرع فيه وفي زمان أصبح الروحاني المتعلق بالمقدسات والأديان، سلعة تصدر من الخارج أو غنيمة يمكن أن نطاردها في مكان ما.

هذا الشرخ الفكري والإيديولوجي الذي تعاني منه شخصية "محمد الفاهم" هو أساس العقدة الأدبية والمحفز الأساسي للكتابة، فبعد أن ذهب للتظيم التي كان يحلم به ودفع من أجله الغالي والنفيس وعاش من أجله محطات من الرعب و المكابدة: هاجر إليه حافيا في الصحراء الليبية، كاد يموت من شدة العطش والتعب، اجتاز الحدود خلسة حالما بالعيش فيه بسلام، هاربا من دولة البطش والاستبداد والتي تمنى العودة إليها رافعا رايته السوداء.

"محمد الفاهم" الآن مطارد بين أمرين: دولة الحداثة والقوانين الوضعية وتنظيم داعش الذي جلد فيه عشرين جلدة وقتل أصدقاءه وجعل من "مطار كشيش" مقبرة لهم، أوصله الخوف منه حد الهروب إلى وجهة أخرى، لم يبق له غير الخوف دولة يسكنها وتسكنه.

كيف يهجر الإنسان رحابة هذا العالم كله إلى ضيق مرعب؟ إننا هنا أمام صورة ذاتية تحاكي  فيها الشخصية نفسها والفاعل يروي فعله، فتارة تمجدها وأخرى تلعن مجيئها إلى هذا التنظيم، سيرة ذاتية وضعت لنا شخصية "محمد الفاهم" في الواجهة ليغيب بذلك الكاتب عنوة ويلتحف برداء الشخصية الروائية ويضع الراوي في عراء المواجهة مع القراء.

البداية لا تكشف اغتراب هذه الشخصية ودوافع نفيرها من تونس إلى سوريا "أرض الجهاد". لكن بمفعول المونتاج الذي رتب الأحداث يمكننا أن نقتفي روابط بين هذه الحكايات المتشعبة. في رواية "كنت في الرقة" توجد الأحداث بتفاصيلها، فدقة الإحاطة بالعوالم والفضاءات والأحداث تعطي الانطباع بكوننا أمام رحلة ومغامرة الأحداث فيها أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع رغم النفس الوثائقي الذي ألقى بظلاله وترك للتاريخ مداخل ممكنة ساهمت في شحن النص.

إن هذه الوقائع تحيلنا بالضرورة إلى نوع من التحول الداخلي وبالتالي لسنا في مدارات التحول الذي عاشته شخصية "غريغور سامسا" في رواية "كافكا"، إنما نحن أمام تحول محكوم بصيرورة أحداث عايشتها الشخصية بكل تفاصيلها وفضاءاتها، الصحراء الليبية، تركيا، تل أبيض، مدينة الباب ومنبج، المدينة الأسطورة كوباني، إدلب وتدمر، الرقة والموصل.

تحولت شخصية "محمد الفاهم" من كائن مسالم عاش طفولته في درتموند إلى وحش فتاك، ومعها تحول الأدب إلى ممارسة الراهن المعيش بأساليب جمعت بين التقرير الصحفي والشهادة والوثيقة والاعتراف والتحقيق والتداعي.